×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
راشد آل دحيم

إنّه أبي العظيم

ما مات من حاز المكارم كلها
من بالرثاء له أُكَفْكف أدمعي

من في النّساء لنا ستُـنْجب مثلهُ؟
طوبى له يا ربِّ هذا مطمعي


ما أعظم فقد الأب! مفزعة مؤلمة محزنة مصيبة وبكل ميمات مواجع الدنيا كانت تلك اللحظة التي اشتعلتْ بها نار الفراق في هشيم جسدي.
التاسع عشر من رمضان ١٤٤٢هـ لم يكُ يومًا عاديًّا لي، إذ أُوصِدَ أمامي بابٌ من أبواب الجنة، فقد رحلتَ يا أبي.
لم يكن رحيلك رحيلًا عاديًّا، رحلتَ يا أبي، رحلتَ أيها العابد الزاهد النقي التقي، رحلتَ عن عيني ، وعن الدنيا، رحلتَ صائمًا ذاكرًا متصدِّقًا مُخرجًا زكاة مالك، كنتَ تسأل في آخر يوم لك، هل أذّن المغرب؛ لأفطر، لم تسأل عن أمر دنيويّ، رحلتَ، ورحلتْ معك كلُّ مواطن السعادة وأنواعها، إذ غربت بُعَيد غروب شمس التاسع عشر
كلُّ ملذات الحياة، فبتُّ في زاوية أتأمل مسيرتي في حياتك يا أبي، منذ أن أمسكَتَ بيدي طفلًا إلى
أداء صلاة الجماعة حتى أخذتني إلى مقاعد الدراسة؛ لأبدأ في القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، ثم تدرجتْ بي المسيرة إلى أن رأيت تحفيزك لي، ولإخوتي وتشجيعك لنا بعد كل نجاح نحققه، فليس النجاح
لنا وحدنا، بل رأيت كل نجاح نحققه يطوِّق عنقك نجاحًا لك، حتى بعد أن كبرنا، كنا في عينيك أطفالًا، تخاف علينا من كل مكروه، تعلَّمْنا في جامعة حياتك العقيدةَ السليمة الصحيحة وحبّ الوطن وقادته، وقِرى الضيف، والصمت في حينه، والحديث في حينه، وتوقير الكبير واحترام الصغير، والبعد عن الكذب والرياء والنفاق، علَّمْتَنا أن نحترم أنفسنا؛ ليحترمنا الآخرون، غرستَ فينا عزة النفس وإباء الضيم، وزرعت فينا الثقة في النفس، فها نحنُ على خطاك سائرون، وعاقدو العزم على ألَّا نحيد عنها قدر أنملة، كان يُضرَب بك المثل في دقة التوقيت: فيقال: (توقيت إدريس)، والأغلى في تعليمك لنا أن وجَّـهْتَنا وعلَّمْتَنا أن كلام الله قواعد حياة، وحديث سيدنا محمد -ﷺ- مرسى نجاة، ثم بعد أن فزعت من تلك الذكرى وجدتني أمام أمر الله أنثرُ على تلك اللبنات ترابًا ما كنت لأنثره لولا أمر الله وقضاؤه، رحلتَ يا أبي بجسدك وروحك، رحلتَ بأعمالك المباركة، رحلتَ بنقائك وطيب معدنك، رحلتَ بأخلاقك الحميدة التي شهد لها القاصي والداني، رحلتَ بجاهك بين الناس، رحلتَ، ولم تحمل الحقد في قلبك على أحد، فـ(لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب).
رحلت، ولم يشكُ منك أخٌ أو قريب أو زميل أو صديق، رحلتَ ولم تعرف للمحاكم بابًا، ولا للإدارات الأمنية طريقًا، ورحلت، ورحلت، ورحلت...

أحببتَ اللغة العربية، وليست تخصصك، ودرَّسْتها فأبدعتَ فيها، فتأثرتُ بك فأحببتُها، فتخصصتُ فيها، صرتَ مديرًا لأكثر من عشرين سنة، فأخلصتَ في عملك، كنتَ تتفقّد الطلاب عند غيابهم، فتسأل عنهم (قبل الجوال)، وكنتَ توصِل الطلاب إلى منازلهم بعد انتهاء اليوم الدراسي، بين بيتك وبين عملك وادي الأحمر الكبير، فلم يمنعك ذلك الذهاب لعملك مع جريان الوادي.

رحلتَ، لكن والله لم ترحل مآثرك ومحاسنك التي نحتّها فينا نحْتًا عظيمًا، رحلتَ ولم ترحل سجاياك وخصالك في كل من عرفت أو من لم تعرفه.
لن نفقدك نحن أولادك وأحفادك فقط، بل سيفقدك من جبرتَ كسرهم، وفرّجت كُربَهم وقضيتَ حاجاتهم، واليتامى الذين كفلتهم، وسيفقدك من أتاك مقترضًا فلم تردَّه خائبًا.
لم ترحل السيرة العطرة المتداولة بين الصغار والكبار.
لم ترحل تلك الصدقات الجارية التي أخفيتها حتى عن نفسك. لم ترحل يا أبي من ذاكرتي، ولن ترحل، ففي كل لحظة تَمُرّ، وأنت موسَّد في قبرك يتوسدني الألـمُ والحنين.
وداعا أبي.
فرحيلك بميماته المتناثرة في فضاءات روحي ستتكاثر ألـمًا.

وداعًا أبي.

ابنك: راشد بن إدريس آل دحيم
مشرف تربوي
رئيس لجنة الأفلاج الثقافية
بواسطة : راشد آل دحيم
 0  0  977